الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعـد:
فهذه جملة مباركة من المواقف النبوية التي ترشد إلى حال نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع الصغار، وكيف كان يعاملهم..
كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يصبر عليهم ولا يضجر..
فعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ رضي الله عنها قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«سَنَهْ سَنَهْ» - وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ - قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي، فَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«دَعْهَا». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي». فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ-يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا-". رواه البخاري.
إنَّ الانشغال بالعبادات، ومناجاة رب الأرض والسماوات، لم يكن ليمنع رسولنا - صلى الله عليه وسلم - من الإحسان إلى الطفل والترفق به..
فعن شداد بن الهاد - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ؟ قَالَ:«كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ». أخرجه أحمد بإسناد صحيح.
فهنا نرى أنَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - يكرَه أن يُعجل هذا الصغير، بل تركه حتى قضى نهمته من اللعب..
إنّ الحسن أو الحسين لم يكن ليفعل ذلك لولا أنْ اعتاد حسن المعاملة والصبر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقد كان من الممكن أنْ يزيحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يفرغ من الصلاة ثم يلتفت إليه بعدُ.. ولكن لم يرد نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يكسر بخاطر طفل حتى في حالٍ يناجي فيها ربه.
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ النَّاسَ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ -وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - - عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ أَعَادَهَا. متفق عليه.
مع أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال عن الصلاة:«جُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». أخرجه النسائي وأحمد وهو صحيح. ومعنى الحديث أنه: لم يكن له حال أهنأ من حاله وهو يصلي. ولهذا كان إذا قام إليها قال:« يَا بِلَالُ، أَقِمْ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا». أخرجه أبو داود وهو صحيح.
ومع ذلك كلِّه لم يترك هديه في معاملة الأطفال وهو متلبس بها.
وعندما كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يخطب في الناس، إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ:«صَدَقَ اللَّهُ: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ? }، فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا». أخرجه الترمذي وغيره وهو صحيح.
إنّه لم يكن أرحم بالصبيان من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام..
فعن أنس - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنِّي لَأَدْخُل فِي الصَّلَاة أُرِيد إِطَالَتهَا، فَأَسْمَع بُكَاء الصَّبِيّ، فَأُخَفِّف مِنْ شِدَّة وَجْد أُمّه بِهِ». متفق عليه. والْوَجْد يُطْلَق عَلَى الْحُزْن وَعَلَى الْحُبّ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا سَائِغ هُنَا، كما ذكر النووي رحمه الله في شرح مسلم.
وبين أنَّ من لا يرحم الصغير فليس منه بقوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا».
ولقد تجسَّدت هذه الرحمة بهم في أسمى صورها في هذه الحادثة التي أخبر بها صاحبه أنسٌ - رضي الله عنه -، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ »، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ، وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّبِيِّ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، قَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:«تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَاللَّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ». متفق عليه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يمازحهم:
فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَآهُ قَالَ:«أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»؟. متفق عليه.
ومن تأمل العبارة التي تفوه بها أنسٌ - رضي الله عنه -:" فَكَانَ إِذَا جَاءَ" علم أنّ ممازحة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الصغير كانت متكررة.. وهذا يدل على تجذر هذه الأخلاق فيه عليه الصلاة والسلام، فما كان مُتَكَلَّفاً فلا يمكن أن يكون مستمراً، قال الرازي رحمه الله:" المتكلف لا يدوم أمره طويلاً، بل يرجع إلى الطبع ".
"والنغير -بالتصغير - هو طائر يشبه العصفور".
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا مرّ على الصبيان في الطريق سلَّم عليهم..
فقد حَدَّثَ أَنَسٌ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ". رواه مسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يقبِّل الأطفال..
فعن أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ». متفق عليه.
وحدَّث يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَامَ الْقَوْمِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقْنِهِ وَالْأُخْرَى فِي فَأْسِ رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ:«حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ». أخرجه الترمذي وغيره, وسنده حسن.
وبعـد؛ فهذه مواقف سريعة ومشاهد منيفة من سيرته - صلى الله عليه وسلم – مع الصغار, فهل نتأسى به عليه السلام وهو القدوة والأسوة ؟
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران: 31].